بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
اليتيم جرح غائر لكنه لا يمنع من الصعود والسمو ولعلماء الأمة منذ قديم الزمان معاناة مع اليتيم لم تحجبهم عن العلم وطلبه والسير في طريقه فإن الله – عز وجل – هو الكافل وهو الرازق وهو الحافظ.
الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – يحكي لنا قصة مؤثرة فيقول :
أحسَّ ( ماجد ) أنَّه لم يفهم شيئاً مما يقرأ ، وأنَّ عينيه تبصران الحروف وتريان الكلم ولكنَّ عقله لا يدرك معناها ، إنه لا يفكر في الدرس ، إنه يفكر في هذه المجرمة وما جرَّت عليه من نكدٍ ، وكيف نغَّصت حياته وحياة أخته المسكينة ، وجعلتها جحيماً متسعراً ، نظر في ( المفكرة ) فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد ، ولابد من القراءة والاستعداد ، فكيف يقرأ ، وكيف يستعد؟
وأنَّى له الهدوء والاستقرار في البيت ، وهذه المرأة تطارده وتؤذيه ، ولا تدعه يستريح لحظةً ، وإذا هي كفَّت عنه انصرفت إلى أخته تصب عليها ويلاتها ؟. . . .
هل يرضى لنفسه أن يرسب في أول سنة من سنيّ الثانوية وقد كان ( في الابتدائي ) المجلَّي دائماً بين رفاقه ، والأول في صفه
وإنَّه لفي تفكيره ؛ وإذا به يسمع صوت العاصفة . . . . وإن العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فت**ر الأغصان ، وتقصف الفروع ، ثم تجيء الأمطار فتروي الأرض ، ثم تطلع الشمس فتنمي الغصن الذي ان**ر ، وتنبت معه غصناً جديداً ، وعاصفة الدار تهب كل ساعة ، فت**ر قلبه ، وقلب أخته الطفلة ذات السنوات الست ، ثم لا تجبر هذا ال**ر أبداً . . . فكانت عاصفة الحقل أرحم وأرق قلباً وأكثر إنسانية من هذه المرأة التي يرونها جميلة حلوة تسبي القلوب . . . وما هي إلا الحيَّة في لينها ونقشها ، وفي سمها ’ ومكرها .
لقد سمع سبّها وشتمها وصوت يدها ، شلت يدها ، وهي تقع على يد الطفلة البريئة ، فلم يستطع القعود ، ولم يكن يقدر على أن يقوم لحمايتها خوفاً من أبيه ، من هذا الرجل الذي حــالف امرأته الجديدة ، وعاونها على حرب هذه المسكينة ، وتجريعها غصص الحياة قبل أن تدري ما الحياة . . .
فوقف ينظر من ( الشباك ) فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي من**رة حزينة ، وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب ، وإلى جانبها أختها الصغرى ، طافحة الوجه صحةً ، بارقة العينين ظفراً وتغلُّباً ، مزهوة بثيابها الغالية . . . فشعر بقلبه يثبُّ إلى عينيه ويسيل دموعاً ، ما ذنب هذه الطفلة حتى تسام هذا العذاب
أما كانت فرحة أبيها وزينة حياته
أما كانت أعزّ إنسان عليه
فمالها الآن صارت ذليلةً بغيضةً ، لا تسمع في هذا البيت إلا السب والانتهار ، أما التَّدليل فلأختها التي تصغر عنها سنتين ، الترف لها ، كأنما هي البنت المفردة ، على حين قد صارت هي خادمة في بيت أبيها ، بل هي شرُّ من خادمةٍ ، فالخادم قد يلقى أناساً لهم قلوب ، وقي قلوبهم دين ، فيعاملونها كأولادهم ، وأبوها هي لم يبقى في صدره قلب ليكون في قلبه شرفُ مما دفعه أن يعامل ابنته ، ابنة صلبه ، معاملة الخادمة الذليلة ، لقد كتب الله على هذه الطفلة أن تكون يتيمة الأبوين ، إذ ماتت أمها فلم يبقى لها أم ، ومات ضمير أبيها فلم يبقى لها أب !!
وسمع صوت خالته ( امرأة الأب تدعى في الشام خالة ) تناديها : ( تعالي ولك ياخنزيرة – ولك كلمة شامية محرفة عن كلمة ويلك تردد دائماً )
وكان هذا هو اسمها عندها ( الخنزيرة ) لم تكن تناديها إلا به ، فإذا جاء أبوها فهي البنت ، تعالي يا بنت ، روحي يا بنت ! أما أختها فهي الحبيبة ، فين أنت يا حبيبتي تعالي يا عيني !
وعاد الصوت يزمجر في الدار ، ألا تسمعين أختك تبكي انظري الذي تريده فهاتيه لها ! ألا تجاوبين ؟ هل أنت خرساء قولي : مذا تريد
فأجابت المسكينة بصوت خائف : إنها تريد الشوكولاته . . .
ولماذا بقيت واقفةً مثل الدُّبة ، اذهبي فأعطيها ما تريد !
فوقفت المسكينة ، ولم تدر كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها . لقد اشترى أبوها البارحة كفا من الشوكولاته ، أعطاه لابنته الصغيرة فأكلته، وأختها تنظر إليها ، فتضايقت من نظراتها فرمت إليها بقطعةٍ منه ، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرة التي تحدق فيه وهو يأكل ، وأخذت المسكينة القطعة فرحةً ، ولم تجرؤ أن تأكلها على اشتهائها إياها ، فخبأتها ، وجعلت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها ، وغلبتها شهوتها مرة فقضمت منها قضمة بطرف أسنانها ، فرأتها أختها المدللة فبكت طالبةً الشوكولاته .
ولك يا شقية فين الشكولاته؟
فسكتت . . . ولكن الصغرى قالت : هناك يا ماما عندها ، أخذتها الشقية مني !!
واستاقت المرأة ابنتها وابنة زوجها ، كما يساق المتهم إلى التحقيق ، فلما ضبطت متلبسةً بالجرم المشهود ، ورأت خالتها الشوكولاته معها حل البلاء الأعظم .
يا سارقة يا شقية هكذا علمتك أمك . . . تسرقين ما ليس لك ؟
وكان ماجد يحتمل كل شي إلا الإساءة إلى ذكرى أمه ، فلما سمعها تذكرها ، لم يتمالك نفسه أن صاح بها :
أنا لا أسمح لكي أن تتكلمي عن أمي .
فتشمرت له واستعدت . . . وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائماً ، فكان يحتمل صامتاً ، لا يبدو عليه أنه يحفل بها أو يأبه لها ، فكان ذلك يغيظها منه ، وتتمنى أن تجد سبيلاً إلى شفاء غيظها منه وهاهي ذي قد وجدتها . .
لا تسمح لي أرجوك يا سعادة البك اسمح لي أنا في عرضك. . آه ! ألا يكفي أني أتعب وأنصب ؛ لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك ، وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود . لقد ضاع تعبي معك أيها اللئيم ، ولكن ليس بعجيب أنت ابن أمك . . .
قلت لك كُـفِّـي عن ذكر أمي ، وإلا أسكتك .
واقترب منها ، فصرخت الخبيثة ، وولولت وأسمعت الجيران . . .
تريد أن تضربني ؟
آه يا خاين ، يا منكر الجميل ، ولي . . يا ناس يا عالم ، ألحقوني يا أخواتي . . .
وجمعت الجيران ، وتسلل ماجد إلى غرفته ، أي إلى الزاوية التي سموها غرفة ، وخصوه بها لتتخلص سيدة الدار من رؤيته دائماً في وجهها .
*********
ودخل الأب المساء وكان عابساً على عادته باسراً لا يبتسم في وجود أولاده ؛ لئلا يجترئوا عليه ، فتسوء تربيتهم ، وتفسد أخلاقهم ، ولم يكن كذلك قبل ، ولكنه استنَّ لنفسه هذه السُّنة من يوم حضرت إلى الدار هذه الأفعى ، وصبت سمها في جسمه ، ووضعت في ذهنه أن ماجداً وأخته ولدان مدلَّلان ، فاسدان لا يصلحهما إلا الشدة والقسوة . . .
وكانت خبيثةً إذا دنا موعد رواحه إلى الدار ، تخلع ثيابها وتلبس ثياباً جديدة ، كما تخلع عنها ذلك الوجه الشيطاني وتلبس وجهاً فيه سمات الطُّهر والطفولة ، صنعه لها مكرها وخبثها ، ولا تنسى أن تنظف البنتين وتلبسهما ثياباً متشابهة كيلا يحس الأب بأنها تفضل ابنتها على ابنته . .
دخل فاستقبلته استقبال المحبة الجميلة ، والمشوقة المخلصة ، ولكنها وضعت في وجهها لوناً من الألم البريء تبدو معها كأنها المظلومة المسكينة ، ولحقته إلى المخدع تساعده على إبدال حلّته ، هناك روت له قصةً مكذوبةً مشوهةً ، فملأت صدره غضباً وحقناً على أولاده ، فخرج وهو لا يبصر ما أمامه ، ودعا بالبنت فجاءت خائفة تمشي مشية المسوق إلى الموت ، ووقفت أمامه كأنها الحمل المهزول بين يدي النمر. فقعد على كرسي عالٍ ، كأنه قوس المحكمة وأوقفها أمامه كالمتهم الذي قامت الأدلة على إجرامه ، وأفهمها قبح السرقة ، وعنَّفها وزجرها وهو ينظر إلى ولده ماجد شزرا ، وكانت نظراته متوعدة منذرة بالشر ، ولم يسع ماجد السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة ، وهي بريئة منها ، فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر ، فتعجل بذلك الشر على نفسه .
انفجر البركان ، وزلزلت الدار زلزالها ، وأرعد فيها صوت الأب المغضوب المتهاج :
تريد أن تضرب خالتك يا قليل الحياء ، يا معدوم التربية ، يا شقي
حسبت أنك إذ بلغت الرابعة عشر قد أصبحت رجلاً
وهل يضرب الرجل خالته
إنني أ**ر يدك يا شقي
والله يا بابا مو صحيح . . .
ووقاحة أيضاً
أما بقي عندك أدب أبداً
أتُكذِّبُ خالتك
أنا لا أكذبها ، ولكنها تقول أشياء ليست صحيحة .
عند ذلك وثب الأب ، وانحط بقوته ، وغلظته ، وأترعت به نفسه من مكر زوجته ، انحط على الغلام ،وأقبل يضربه ضرب مجنون ذاهبِ الرشد ، ولم يشف غيظ نفسه ضربه ، فأخذ الدفتر الأسود الذي أودعه دروسه كلها ، فمزّقه تمزيقاً . . . ثم تركه هو وأخته بلا عشاء عقوبة لهما وزجراً . . .
****
تعشى الزوجان وابنتهما ، وأويا إلى مخدعهما والغلام جاثم مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه ، وعاف لأجله طعامه ومنامه ، الذي وضع فيه نور عينيه ، وربيع عمره ، وبنى عليه أمله ومستقبله . . . ثم قام يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوحت به قنبلة . . . فإذا هو ألاف لا سبيل إلى جمعها ، ولا تعود دفتراً يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشلاء بشراً سوياً يتكلم ويمشي . . . فأيقن أنه قد رسب في الامتحان ، وقد أضاع سنته ، وعظم عليه الأمر ، ولم تعد أعصابه تحتمل هذا الظلم ، وأحس كأن الدنيا تدور به وزاغ بصره ، وجعلت أيامه تكرُّ راجعة أمام عينيه كما يُكرُّ فيلم السينما . . .
رأى ذلك الوجه الحبيب ، وجه أمه ، وابتسامتها التي كانت تنسيه آلام الدنيا ، وصدرها الذي كان يفزع إليه من خطوب الدهر ، رآها في صحتها وشبابها ، ورأى البيت وما فيه من السِّلم والهدوء والحب ، ورأى أباه أباً حقيقياً تفيض به روح الأبوة من عينيه الحانيتين ، ويديه الممتلئتين أبدا بالطُّرف واللطف ، ولسانه الرطب بكل جميل من القول محبب من الكلام . . .
ويكرُّ الفيلم ، ويرى أمه مريضةً فلا يهتم بمرضها ، ويحسبه مرضاً عارضاً . . . ثم يرى الدار والاضطراب ظاهر فيها ، والحزن بادٍ على وجوه أهلها ؛ ويسمع البكاء والنحيب ، ويجدهم يبتعدون به ، ويخفون النبأ عنه ، ولكنه يفهم أن أمه قد مــاتت .
مــــــاتت
إنها كلمة تمر عليه مراً هيناً فلا يأبه به ، وكان قد سمع بالموت ، وقرأ عنه في الكتب ، ولكنه لم يره من قريبٍ ولم يدخل داره ، ولم يذقه في حبيبٍ ولا نسيبٍ ، غير أن الأيام سرعان ما علمته ما هو الموت حين صحا صبيحة الغد على بكاء أخته الحلوة المحببة إلى أمها ، والتي كانت محببة تلك الأيام إلى أبيها ، ففتح عينيه فلم يجد أمه إلى جانبها لترضعها ، وتضمها إلى صدرها ، واشتد بكاء البنت ، وطفق الولد ينادي : ماما . . . ثم جفا فراشه ، وقام يبحث عنها ، فوجد أباه وجمعاً من قريباته ، يبكون هم أيضاً . . . فسألهم : أين أمي
فلم يجيبوه . . . حين أراد الغدو على المدرسة ، فناداها فلم تأتِ لتعد له حقيبته ، وتلبسه ثيابه ، ولم تقف لوداعه وراء الباب تقبِّــله ، وتوصيه ألا يخاصم أحداً ، وألا يلعب في الأزقة ، ثم إذ ابتعد عادت تناديه ؛ لتكرر تقبيله وتوصيته ، وحين عاد من المدرسة فوجد امرأة غربية ترضع أخته . . . لماذا ترضعها امرأة غريبة
وأين ماما
ويكرر الفيلم ، ويرى أباه رفيقاً به حانياً عليه يحاول أن يكون له ولأخته أماً وأباً ، ولكن هذا الأب تبدل من ذلك اليوم المشئوم ، ورأى ذلك اليوم المشئوم ، يوم قال له أبوه : ستأتيك يا ماجد أمٌ جديدة . . .
أمُ جديدة
هذا شيء لم يسمع به ، إنه يعرف كيف تجيء أخت جديدة ، إن أمه تلدها من بطنها ، أما هذه الأم فمن أين تلد
وانتظر وجاءت الأم الجديدة ، وكانت حلوةً ، ثيابها جميلة ، وخدودها بلون الشفق ، وشفاهها حمر ، ليست كشفاه الناس ، وعجب من لون شفاهها ، ولكنه لم يحببها ولم يمل إليها ، وكانت في أيامها الأولى رقيقةً ولطيفةً ، كالغرسة الصغيرة ، فلما مرت الأيام واستقرب في الأرض ، ومدت فيها جذروها ، صارت يابسة كجذع الدوحة ، وإن كانت تخدع الرائين بورقها الطري وزهرها الجميل . . . ولما ولدت هذه البنت انقلبت شيطانةً على صورة أفعى مختبئة في جلد امرأة جميلة. والعياذ بالله من المرأة الجميلة إذا كانت في حقيقتها شيطانةً على صورة أفعى ! !
وانطمست صور الماضي الحبيب ، واضمحل الفيلم ، ولم يبقى منه إلا هذه الصورة البشعة المقيتة ، ورآها تكبر وتعظم حتى أحاطت به ، وملأت حياته ، وحجبت عنه ضياء الذكرى ونور الأمل . . . وسمع قهقهةً فانتفض ، وأحس كأن رنينها طلقات قد سقط ( متر ليوز ) قد سقط رصاصه في فؤاده ، وكانت قهقهة هذه المرأة التي أخذت مكان أمه يتخللها صليل ضحك أبيه . . . وأنصت فإذا هو يسمع بكاءً خافتاً حزيناً مستمراً ، فتذكر أخته التي نسيها ، وذكره جوعه بأن المسكينة قد باتت بلا عشاء ، ولعلها قد بقيت بلا غداء أيضاً ، فإن هذه المجرمة تشغلها النهار كله بخدمتها وخدمة ابنتها وتقفل دونها غرفة الطعام ، فلا تعطيها إلا **رة من الخبز ، وتذهب فتطعم ابنتها خفيةً ، فإذا جاء الأب العشية ، ولبست أمامه وجهها البريء . . . شكت إليه مرض البنت وضعفها :
مسكينة هذه البنت ، إنها لا تتغذى . . . انظر إلى جسمها ، ألا تريها الطبيب ؟ . . . ولكن ماذا يصنع لها الطبيب ، إنها عنيدة سيئة الخلق . . . أدعوها للطعام فلا تأكل ، وعنادها سيقضي على صحتها . . .
فيناديها أبوها ويقول لها :
ولك يابنت ما هذا العناد
كلي وإلا **رت رأسك !
فتتقدم لتأكل فترى المرأة . . . تنظر من وراء أبيها نظرة الوعيد ، وترى وجهها قد انقلب حتى صار كوجه الضبع ، فتخاف وترتد . . .
فتقول المرأة لزوجها : ألم أقل لك ، إنها عنيدة تحتاج إلى تربية . . .
فيهز رأسه ، ويكتفي من تربيتها بضربها على وجهها ، وشد أذنها ، وطردها من الغرفة ، ويكون ذلك عشاها كل عشية!
تذكر ماجد أخته فقام فرفعها ، وضمها إلى صدره .
مالك ؟ لماذا تبكين ؟ اسكتي يا حبيبتي .
جوعانة !!
جوعانة من أين يأيتها بالطعام وقام يفتش . . . فأسعده الحظ فوجد باب غرفة الطعام مفتوحاً ، وعهده به يقفل دائماً ، ووجد على المائدة بقايا العشاء فحملها إليها ، فأكلتها فرحةً بها ، مقبلةٍ عليها ، كأنها لم تكن من قبل الابنة المدللة ، المحبوبة ، التي لا يرد لها طلباً لو طلبت طلب ولا يخيب لها رجاء ، وآلمه أن يراها تفرح إذا أكلت بقايا أختها وأبيها ، يسرقها لها سرقةً من غرفة الطعام ، وعادت صور الماضي ، فتدفقت على نفسه ، وطغت عليها ورجعت صورة أمه فتمثلت له ، وسمعها تناديه . . . لقد تجسم هذا الخيال الذي كان يراه دائماً ماثلاً في نفسه حتى رده إلى الماضي وأنساه حاضره . . . ولم يعد يرى في أخته البنت اليتيمة المظلومة ، وإنما يراها الطفلة المحبوبة التي تجد أماً تعطف عليها ، وتحبها . . .
ونسى دفتره الممزق ، ومستقبله الضائع ، وحياته المرة ، وطفق يصغي إلى نداء الماضي في أذنيه . . . إلى صوت أمه. . .
• قومي يا حبيبتي ، ألا تسمعين صوت أمك
تعالي نروح عند ماما !!
فأجفلت البنت وارتاعت ؛ لأنها لم تكن تعرف لها أماً إلا هذه المرأة المجرمة . . . وخافت منها ، وأبت أن تذهب إليها .
لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوهت في نفس الطفلة أجمل صورة عرفها الإنسان صورة الأم!!
• تعالي نروح عند ماما الحلوة : أمك . . . إنها هناك في محل جميل : في الجنة . . . ألا تسمعين صوتها ؟
وحملها بين يديه ، وفتح الباب ، ومضى بها . . . يحدوه هذا الصوت الذي يرن في أذنيه حلواً عذباً ، إلى المكان الذي فيه أمهُ !!
وقرأ الناس في الجرائد ضحى الغد أن العسس وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة السادسة من عمرها ، وولداً في الرابعة عشرة ، قد حُمِلا إلى المستشفى ؛ لأن البنت مشرفة على الموت ، قد نال منها الجوع والبرد والفزع ، ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر ، أما الغلام فهو يهذي في حمته يذكر الامتحان ، والدفتر الأسود ، وأمه التي تناديه ، والمرأة التي تشبه الأفعى !!!
مع تحياتي دلع